يقدّم هذا المعرض مجموعة منتقاة من أعمال ست فنّانات فلسطينيّات ناشطات اليوم في عالم الفنّ، سواء داخل اسرائيل أم خارجها. تتناول كلّ واحدة منهنّ بشكل خاص العلاقة بينها وبين شخصيّة الأب - شخصيّة مركزيّة في تكوينها الفنّيّ والجنسانيّ والاجتماعيّ، وحتى السياسيّ. وِفْقًا لفرويد، صاحب نظريّة التحليل النفسيّ الحديث، هناك خبرة مستمرة يكتسبها الانسان لفك رموز العلاقة المعقدة بين الأب وبنته، فهي بطبيعة الحال علاقة معقّدة ترتبط أحيانًا بالإعجاب والحب والكراهيّة وكنموذج للتقليد والبحث عن المتشابه والمختلف وغير ذلك. هذه العلاقة السائدة بين الابنة-الفنّانة وبين شخصيّة الأب، التي ترمز أيضًا إلى الهيمنة والحكم والسلطة، هي في معظمها تكون حاسمة ضمن تكوينها العاطفيّ.
يتضمن المعرض عددًا صغيرًا نسبيًا من الأعمال التي تمّ اختيارها لتمثيل مجموعة من الفنّانات اللواتي قطعن شوطًا مهمّا في حياتهن المهنيّة، سواء على الصعيد الفنّي أو الشخصيّ. فكلّ واحدة من الفنّانات الست تفتح لنا نافذة لتتيح لنا التأمّل من منظور فريد لنستكشف تعقيدات السياقات المختلفة التي يحاول هذا المعرض أن يتطرق إليها. بالطبع فإنّ لذلك خاصيّة مميّزة وخاصّة على ضوء أنّ هؤلاء فنّانات ينتمين في هويتهن الاجتماعيّة الواعية إلى مجتمع عربيّ الذي يتمّ تعريفه على الأغلب بكونه ذكوريّا – شوفينيّا. مجتمع تكون فيه شخصيّة الأب عادة هي المهيمنة، ولكن ليس بالضرورة بتعريفها السلبيّ. كأيّ مجتمع آخر، نجد العديد من الخرافات والصور النمطيّة التي تتعلق بالمجتمع العربيّ بشكل عام، والمجتمع الفلسطينيّ بشكل خاص. لكنّ هذا المعرض يأتي ليكشف، إلى حد ما، عن طبقات تختفي عن عيون المشاهدين غير الملمّين بقواعد الأنظمة وبالعلاقات السائدة داخل المجتمع العربيّ. في الوقت ذاته، نجد أيضًا أنظمة وقوانين بشريّة عاديّة لا تختلف عن أي مكان آخر في العالم، تلك التي يتمّ التعبير عنها من خلال المشاريع الفنّيّة المميّزة التي تشاركنا بها مجموعة الفنّانات الست.
في فضاء اللغة هناك عدّة احتمالات لعرض قواعد سلوكيّة وتركيباتها، وكذا الحال في فضاء الفكر الفلسفيّ حول جوهر الحياة، فكلّ ما يحمل الذهن البشريّ ما هو سوى احتمالات غير متوقّعة يمكن من خلالها طرح تفسيرات لا نهاية لها حول العلاقات القائمة على أحاسيس ومشاعر، أو بالرغبة غير المحقّقة في العودة الى رحم الأم. بينما في الخيال الفنيّ وفضاء الإبداع، فيتمّ استخدام المادة واللون والخط والتكوين والملمس والشكل معًا لخلق أشياء غير موجودة حتما في الواقع. من خلال فكرة فنيّة قد تثير الحواس، ومن خلال هوس الفنّان، وليس بالضرورة من حيث المكوّنات الأصليّة للمادّة أو جوهرها، تنجلي أمامنا عملية الخلق. هذه فراشات تحمل من لا صوت لهم، الضعفاء، كما وتحمل الهدوء والطمأنينة في بعض الأحيان، ولكن في مقدورها فعلا التغلب على أصوات النشاز، لتخلق لنا بديلاً من فضاءات الصمت، الذي ليس هو بصمت.
كلّ صوت هنا في ساحة هذا المعرض تحمل لونا وشكلا وحركة ومقولة خاصة، والتي تشمل تجربة حياتيّة وركضا لمسافات طويلة. ونحاول من خلال العرض نسج هذه الأصوات وإيجاد معالم ألفة بينها. العمل الفنّيّ لا يحوي بالضرورة تفسيرًا عقلانيًا، ولا حتّى فلسفيًا، بل هناك بالضرورة تقاطعات وأبعادا لها تأثير على الجسد وعلى الزمان والمكان. من خلال هذا المعرض، نقوم بعملية فحص للوسائل والأساليب التي تتعامل بها كلّ واحدة من الفنّانات الست ضمن علاقتهن بشخصية الأب - ليس بالضرورة الأب البيولوجيّ - ولكن الشخصيّة الذكوريّة في المجتمع الأبوي، بكلّ ما يعني ذلك من أمور.
من خلال الاستشهاد بجملة تأسيسيّة للعالم في المنظور الدينيّ المسيحيّ، والتي تُقدس شخصيّة الأب ضمن التسلسل الهرميّ للأدوار ضمن الحيّز الروحاني والاجتماعي (وغنيّ عن القول أنّ هذه النظرة للعالم لا تقتصر على العالم المسيحيّ)، يتمّ تبادل الأدوار بين الأب والبنت. وبهذه الحبكة، فقد تتحوّل مساحة العرض إلى محاولة لتفكيك خصائص دور المرأة، وذلك من خلال الجملة التصحيحيّة: "الآب، والبنت والروح القدس". هذا بالإضافة لاختيار ست فنّانات عربيات فلسطينيات يعِشن في ظلّ تعقيدات المجتمع الإسرائيلي، حيث يمثلن عدد الأيام الستّة الأولى من خلق العالم، فتقوم هنا كلّ فنّانة بخلق عالمها الخاص بها.
تلعب شخصية الأب دورًا مهمًا في عملية تكوين وصقل الهويّة الشخصيّة لكلّ إنسان. فهي مرتبطة بعناصر ذاتيّة من ناحية، وبتأثيرات اجتماعيّة وسياسيّة من ناحية أخرى. وهنا تستكشف كلّ فنّانة متاهات النفس المرتبطة بعلاقتها المركّبة مع شخصيّة الأب. يمكن تفسير هذه العلاقات على أسس النظريات النفسيّة التي حدّدت حالة الدونيّة التي تشعر بها كلّ فتاة في مرحلة الوعي الجنسيّ. من الشائع أن فرويد كان أول من أشار إلى العلاقة بين الآباء والبنات، والتي بموجبها هناك تخيّلات لم تحقّقها الابنة تجاه والدها. لقد حاول فرويد أيضًا وضع مفاهيم لشرح تصورات العلاقة بين الابنة والأب، حيث وظّف عقدة إليكترا من الأسطورة اليونانية، وهو ما يماثل عقدة أوديب الذكوريّة. لقد كانت إحدى فرضيّات فرويد الأساسيّة هي الإصرار على انجذاب الابنة إلى والدها؛ وكان مفهوم فرويد لتطور الهويّة الأنثويّة بهذه الطريقة، ووصفه لهذه لعلاقات مع الأب له تأثير كبير في القرنين الماضيين، وقد شمل ذلك المجال الفنّي أيضا، حيث كان للرجال كامل السيطرة، لكن اليوم فقد تغيّر هذا الأمر. في الثمانينيات من القرن الماضي تقريبا، بدأت صحوة نظريّة في الخطاب النفسيّ فيما يتعلق بالتطوّر العاطفيّ والاجتماعيّ للمرأة، ولا شكّ بأنّ هذه الصحوة متأثرة بالثورة النسويّة. فنجد عودة المحلّلين النفسيّين النسويّين تدريجيا، ومن أبرزهم جيسيكا بنيامين، إلى تحليل جديد للعلاقة الخاصة بين الآباء والبنات. في النظريات اللاحقة نرى أنّهم قد تحدّوا مفاهيم فرويد المبكّرة عن تفوّق الذكر على الأنثى.
لعلّ اختيار مجموعة مؤلفة من ست فنّانات فلسطينيات يعملن حاليًا في الحيّز الإسرائيلي يدعو إلى تفكيك الصورة النمطيّة للهيمنة الذكوريّة، لكنّه يقدّم أيضًا صورة مختلفة، ومختلفة تمامًا عمّا يظهر يوميًا في وسائل الإعلام. لا يوجد حديث هنا عن نقص المرأة أو ضعفها أو خضوعها أو طاعتها كما كان الحال في الماضي. بدلاً من ذلك، نجد في هذا المعرض مجموعة من الفنّانات اللاتي يلعبن دورًا مركزيًا وفعّالا في الحضور الفنّيّ والاجتماعيّ وحتّى السياسيّ.
يضمّ هذا المعرض مجموعة من أعمال مختلفة من ناحية الأليات والخامات والوسائط الفنّيّة، فيشمل أعمال الفيديو-أرت والرسم وأعمال التركيب (المنشآت) والنحت والتصوير، بحيث تعبر عن الروابط الواسعة لعلاقات الفنّانة مع شخصيّة الأب، والتي ترمز إلى الهيمنة والحكم والسلطة. ومن هنا تهدف الأعمال الفنّية لقلب موازين القوى التي تتناول العلاقات الذكوريّة القمعيّة والتي تهدف السيطرة والسلطة، تلك التي تمنح الرجل الحق الحصريّ في أخذ الدور المركزيّ في الحياة والمجتمع والسياسة. ومن هنا يأتي هذا المعرض لإعادة فعل الإبداع للمرأة، والتأكيد على دورها الريادي والإبداعي في سياق الفن الفلسطينيّ بشكل خاص، والعربيّ بشكل عام.
النص هو النص الإشرافي لمعرض "الأب، البنت والروح القدس" الذي عرِض في جاليري سمينار هكيبوتسيم للفنون، "أحاد هعام 9''
الأبُ، البنتُ والرُّوحُ القُدُس
د. حسني الخطيب شحادة
رئيس برنامج الفنون البصرية في كلية ليفنسكي للتربيّة، ومحاضر في أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم (القدس). تتمحور اهتماماته البحثية حول الأدب العربي الكلاسيكي والحديث وتاريخ العلوم الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، وتاريخ الفن، تحديدًا تاريخ الفن الفلسطيني المعاصر. تشمل إصداراته كتابًا حول البيطرة في العصر الإسلامي الوسيط (بريل، 2013)، ومجموعة من الدراسات والكتالوجات حول الفنون الفلسطينيّة المعاصرة، وديوانَي شعر. أشرف على العديد من معارض الفنّ الفلسطينيّ المعاصر.