ضمير مستتر[1]
[1] الضّمير المُستَتِر هو الضّمير الذي يكون خفياً غير ظاهر في النطق والكتابة
حنا قبطي
من مواليد مدينة الناصرة عام ١٩٨٣ یعمل ویعیش في القدس. فنان، قيم معارض وباحث في مجال الفنون البصرية، حاصل على درجة البكالوريوس في التصوير الفوتوغرافي من أكادیمیة بتسلئيل للتصميم والفنون في القدس (٢٠١٧) وشهادة الماجستير في الفنون من نفس الأكاديمية (٢٠١٩). یعمل قبطي كقيم للمعارض في جالیري المركز للفنون المعاصرة في القدس.شارك في العديد من المعارض الجماعية في البلاد. تتمحور أعماله الفنیة حول التساؤلات عن الهویة القومیة والهویة الهجینة، الذاكرة الفردیة والجمعیة لفلسطینیي الداخل، واللغة وعلاقتها بالبيئة المحيطة. یتعامل قبطي مع العدید من الوسائط الفنیة كفن الفیدیو، الفوتوغراف، والأعمال التركیبیة في الفراغ العام، والتي تأخذ أشكال ودلالات مختلفة من عمل إلى آخر.
في محاولة منه لنيل الخلاص، أو التنفيس عن النفس، يختار الفنان الفلسطيني أن يسكت طواعية أحيانًا، أو أن يجبر نفسه على الصمت ساعيًا للتحرر من أعباء النقد "الكلاسيكية". ومن هنا، وفي عصر ما بعد بعد الحداثة، قد يحتمي بعض الفنانين بالسرية لتخرجهم من مساحاتهم الآمنة وتأخذهم إلى مساحات أكثر عمقا ووضوحا، محولة زيارة المعرض من نشاط ترفيهي إلى نشاط أكثر جدية، وأقل برجوازية ،ربما، يتعرض فيها الزائر للمدرسة النقدية ويتعلم أو يتمرن على فهم الأعمال دون التشبث بهوية الفنان وإسقاط محتويات العمل على هويته.
في معرض ضمير مستتر يواجه العمل الفني سطوة المنسق الشخصية التي ستقرر له مكانه ومكانته، جنبا إلى سطوة المتلقي الذي لن يتوانى في الحكم على الأعمال "مقطوعة النسب" بجرأة وعنف، فهو للمرة الأولى يواجه عملا قائما بذاته، لا يضطر فيه إلى التنقيب عن هوية الفنان، وممارساته السابقة، ليقارنها أو يقاربها، أو يحتكم إليها عند إصدار حكمه عليها، بل يجدها فرصة إلى قراءة إبداعية ومغايرة، يتمكن فيها من إعادة بناء وتفكيك المعاني وفقا لما يراه وما يتذوقه، لتتفوق سلطة النص - أو العمل الفني في حالتنا - جنبا إلى سلطة القيّم على سلطة مؤلف هذا العمل أي الفنان.
وبالعودة إلى قيّم معرض ضمير مستتر ; الذي يلعب الدور الأبرز في هذا الفعل، فهو الداعي إلى هذا الحراك الثائر ضد القوالب التقليدية للفن في هذه المنطقة، وهو المحرر، حتى صار بالإمكان الإدعاء بأن هذا العمل الجماعي هو عمل يجب أن يحمل اسمه في غياب وتستر الفنانين الذين قاموا بتنفيذ الأعمال الفردية المعروضة. وهو الذي قام - بالسلطة التقليدية المخولة إليه- بتجريد هذه الأعمال من سياقات النصوص المتهالكة التي عادة ما ترافقها، واستبدالها بوصف رسمي ومحايد لبنية العمل تجنبا لسيطرة التفسير الأحادي والثابت الذي كان مسيطرا على الاتجاهات النقدية الكلاسيكية إلى معانٍ لا نهائية، وتفاديا لأن تكون طرقا مُختصرة إلى المعاني التي تتحملها وتحملها الأعمال الفنية المُنتجة، وحافزا إلى التيقظ واستنطاق الأعمال وفقا لما يقوم بتأويله المتلقي، الذي كان من السهل عليه الإحتكام إلى النص المرافق وفهم المقاصد التي أرادها الفنان مما يعني وأد أسئلة ومعانٍ وحوار قد تولد بين المتلقي والعمل.
وفيما يحتدم النقاش بين ما قرره رولان بارت كمصير مناسب للمؤلف ; حيث قام بإعلان موته، وما قرره مارتن هيدجر[1] للفنان، حيث أصرّ على حياته، والذي رأى أنه أصل العمل الفني، وأن العمل الفني هو جوهره الفنان، وبالفن تقوم الحقيقة فقد أدلى قيّم المعرض دلوه في هذا السياق، وهو ابن اليوم وتلميذ جميع من سبق، حيث قرر أن يقف حدود النظريتين ليبني مستوطنته الخاصة التي يقوم فيها بإلباس الفنانين قناعا يخفي وجوههم، للأسباب آنفة الذكر، والأسباب التي سأقوم تباعا على ذكرها، وليس بينها أي جائحة!
لقد قام القيّم بالتواصل بشكل سري مع عدد من الفنانين الفاعلين في الحقل الفني المحلي والعالمي، بغرض عرض أعمالهم في صالة عرض المركز للفنون المعاصرة، إلا أنه قوبل بالرفض لأسباب تعلقت بإشكالية المكان التي تمثلها صالة العرض، اشتركت جميعها في التخوف من وحش "التطبيع" الذي سيرافقهم في حال قاموا بالعرض بشكل علني، والخوف من الإجابة عن سؤال التمويل، والتحفظ من مسألة التعاون مع جهات إسرائيلية. حتى وُلدت فكرة مختلفة عن السائد أثناء نقاشات القيّم مع بعض معارفه وأصدقاءه مفادها "الإحتيال على النظام"، والتي بموجبها قرر القيّم أن يقيم معرضا بدون أسماء، حيث تُخفى هوية الفنان عن الجمهور، وعن أقرانه الفنانين من المشاركين بحيث لا يعرف أحدهم الآخر، ولا يعرف عددهم بالتحديد أحد، حيث تم التواصل بشكل فردي مع كل فنان وآخر حتى لاقت هذه الفكرة استحسانهم، حيث استهوتهم فكرة التخفي، التي من شأنها أن تطلق لهم العنان بأن يقوموا بإنتاج عمل فني مختلف، جريء ومتحرر، ففي النهاية لا أحد يستطيع محاكمة فنان مجهول، سيحاكمون العمل ويمضون .
طوال عام، وفي شد وجذب مع هؤلاء الفنانين تم إنتاج 13 عمل فني حاول فيه الفنانين والفنانات الانعتاق من أنفسهم، والعمل على مواضيع مختلفة لم يعتادوا العمل عليها، باستخدام وسائط جديدة مكنتهم من التجريب بشكل حر دون أن يعملوا حسابا لما سيقابلهم من نقد، حتى قاموا أخيرا بخلق معرض لا يستطيع المتلقي الجزم من نُخبويته من شعبويته، أعمال تبدو وكأنها تنتمي إلى طبقة واحدة، طبقة تحفها هالة "إشتراكية " واحدة . وأيا ما كان المصير الذي ستلاقيه، ستلاقيه بالتساوي وسيعود على جميع من فيها .
فإذا كانت الأعمال الفنية المعروضة هي بمثابة مواقف، سواء كانت خجلة أو جريئة، اتخذها أصحابها وفقا لما هو سائد من أنماط ووسائط وتقنيات، فإن هذا المعرض هو الموقف الأبرز في الحقل الفني الفلسطيني، وكما قال بورديو[2] : "إن حقل الإنتاج الفني هو عالم من الثورة الدائمة والتمرد على الأساليب القائمة" . ويكفي أن نبحث عن تجارب مشابهة في تاريخ الفن الفلسطيني، لنجد أنه ليس هنالك حراك شبيه بهذا "الجانر" الجديد، باستثناء مبادرة الفنان الإنجليزي بانكسي في فندقه الخاص The walled off Hotel، هناك حيث يقوم بإنتاج وعرض أعماله الخاصة تحت اسم مستعار، ليس في فلسطين فحسب، وإنما في مناطق مختلفة من العالم .
إن ما يحدث هنا هو أشبه بثورة. ثورة ضد المُسلّمات، احتيال على الطابوهات لإعادة تعريف الكثير من المصطلحات، تفكيك بروتوكولات فنيّة، تساؤل حول الفلسطيني، وفنـّه، وأدبه، ومسكنه، وعاداته وتقاليده، والفولكلور الخاص به، والذي عادة ما يُعبر عنه بأشكال بصرية "كيتش"، المراوغات في تعريف الهوية، القدس شرقيها من غربيها، التطبيع أين يبدأ وأين ينتهي، الأديان التي نلتزم به كتراث شكلي وأدبي فحسب، الجندر الذي اختزلنا كل أحاديثنا فيه، الوسائط المهيمنة في الفن المحلي والعالمي، التجريب وحدوده .. الآيقونات من الكرسي وإلى فنجان الشاي، أعمال الريدي ميد، الرأس مالية، ثقافة الاستهلاك والمحاكاة الساخرة، غياب المنهجية، والسردية والقصة وتخبطاتنا وانعدام التعريفات الواحدة لكل ما يحيط بنا . واختيار التخفي في سبيل النجاة.
(رافق النص معرض "ضمير مستتر" الذي أقيم في غاليري "المركز" للفنون المعاصرة في صيف 2020)
[1] مارتن هايدجر، أصل العمل الفني.
[2] بيير بورديو (1930 - 2002) Pierre Bourdieu