top of page

لغة التشكيل ومعضلة التغيير والتأثير

رونين زين

أسد عزي

من مواليد شفاعمرو عام (1955م). درسَ في ثانوية "كريات آتا" ودرسَ الفنَّ في جامعةِ حيفا حيث حصل على درجة البكالوريوس في العام 1980، وفي جامعة تل أبيب حيث حصل على درجة الماجستير في العام 1983. حصل في العام 2018 على شهادة بروفيسور من كلية بيت بيرل. أحدُ مؤسّسي مجموعةِ "ريجا" (1982) وأوّل مَن أقام مهرجان "مركز التُّراث الفلسطينيّ" في الطيبة في العام 1986. عمل في العام 1987 محاضرًا في كلية الفنون الجميلة في بيت بيرل. محاضر ضيف في جامعة حيفا.

نشر عَزّي العديدَ من المقالاتِ والدِّراساتِ في الصُّحفِ العربيَّةِ المحليَّة. من أعماله: "تحت أقدام المصير المرّ"، قصائد، إصدار دار النشر الرنسانس، حيفا (1975)، "موسم الهمسات"، قصائد، إصدار دار النشر الرنسانس، حيفا (1978)، و- "قصائد سوقيّة"، قصائد، إصدار دار النشر "كلمات"، دالية الكرمل (1979)

طبقات 100-100-10 نردين سروجي

حنا قبطي صوره من فيديو

أصاله حسن زيت على قماش 160-200  2017

للفن وجوه وتعريفات متعددة ومتباينة إلا أنه يبقى بشتى حلله أداة للتعبير والتواصل بين البشر، لغة يصيغها الفنان بأساليب وأشكال تناسب معايير حدودها بروح  المكان والزمان الذي يعيشهما أو يتعداهما حتى، لغة تسمو دائماً وتنقل المتلقي إلى عوالم سحرية ومضامين مبطنة تتحدى ذكاءه وتحفزه على تفكيك ألغازها وفهمها بعكس الحياة المعاشة.

عصرنا هذا يضج بالأصوات والهتافات والفتاوى. تشعر أحيانا أن برج بابل يحاصرك ويهدد كيانك، وتشعر أحياناً أخرى بضوضائيته وأجيجه حاجتنا الملحة للحرية والتعددية والديموقراطية. في هذا الجو العاصف المتسارع المتقلب يصعب تحديد ما هو راقٍ وما هو متدنٍ، ما هو الفن وما هو التبهرج، ساد ذوق العامة السطحي، تفشت الشتائم والتعابير المبتذلة، شاعت لغة الشبكات العنكبوتية الهدامة على لغة الكتاب ورأي المختصين والمطلعين والعارفين بالأمر، أصحاب الفكر السديد والذوق السليم  فأحياناً كثيرة أصبحنا نفتقد هؤلاء القوم ولا نرى منهم إلا نسخًا منزوعة منتهية الصلاحية. 

كثرت المنصات واحتدم النزال ليس على شيء سوى جمع  المال إذ تقيَّم الأعمال بأسعارها وبالتهافت على اقتنائها ليس بقيمتها الروحانيه، يتاجر الناس بعملة متخيلة لا وجود لها، أعمال فنيه تولد وتعيش في ثنايا العوالم المفترضة المعتمة، مرضت النفوس، أبحرت عميقاً في حقول الملح وصار من الصعب تحلية موانئها.

أستطلع ما يتداوله الناس حولي لا أسمع سوى الأفكار اللزجة. حتى كلماتي انتكست أطرافها، علي أن أعالج كل حرف فجر كل إنشاء. أبحث عن ثدي لأبيض المعاني كطفل رضيع تاه عن صدر أمه. أسمع همسات صوتها هنا وهناك أتراكض أرتشف ما أجده أنصاف الكؤوس قدر من المتبقي تشربت روائح وطعم الرجعية والعنصرية والأنانية وعدم الوعي والنوايا المبيتة. 

عطشي يزداد 

قسم مني تعب 

أعاتبه على حزن أعرفه رغم تفاؤلي 

ماذا ترك لنا آباؤنا ؟ يبخها في وجهي قيئاً كريه الصفرة 

ماذا؟ سوى الفقر والذل والعنف والتزمت والتطرف. ركبتنا عفاريت العالم فأصبحنا نقتتل بيننا باسم الدين والنهج والنفط والقبائل. 

ماذا تركوا لنا سوى قطعة الأرض التي باعها آباؤهم أو آبناؤنا للدار العالي أو لمن ينوب عنه والمشتري واحد وكلنا نعرفه ونعرف أنه  دس نص من قبله في كتب الدين باسم الرب سماه واليًا على أرض ليست له.

ولا أرغب بالكشف أكثر فحكايا الجدات تفيض بقتل أولياء الله وصلبهم .أخبار لا تصلنا تقول بأن المستهدفين هذا الزمان هم العلماء والشعراء وأهل الفكر وكل من استرق النظر على ديانا آلهة الصيد الإغريقية وهي تغتسل مع جاريتها بعين الماء خلف الجبل قد يكون أحد منهم استقى علماً بدافع قتلها اكتيون الصياد. 

قسطي المتبقي يبحث عن عين مائه  يجد منها ما هو عذب ما هو هادف متفكر  واعٍ لم تسبيه وساوس المزادات ومغر المتاحف أبحث فأجد نردين سروجي واحدة من بين عدة تقنعني نردين تكلف الوجودية أعمالها وحداثة موادها وعمق أفكارها وجمالية منتجها فهي تعتمد لغة النحت بمفاهيم ما بعد الحداثة حيث أنها توظف مادة البناء الأساسية كالرمل والحصى والأسمنت والكلس (مواده مثقلة بالإيحاءات المباشرة والرمزية في سياق الصراع الصهيوني العربي على الأرض وعلي البيت) وتفعلها بمنطق التغريب حيث تصبح هذه المواد بمجمل التئامها وكأنها كعكة عيد ميلاد صنعته يد طاهية ماهرة هي النحاتة ذاتها، أو نموذج مختبري لعينة ترابية أنتربولوجية أو تاريخية اقتلعها معول باحث آثار بارع على أن يبقى فعل النحت كمهارة وحنكة في حالة فر وكر، بين هذا وذاك، بين الشكل والمضمون والمغزى، بين الواقع المادي وروحانية الفن، فعل النحت التراكمي عند نردين له منحى نسوّي في تعاملها الرقيق المرن والناعم مع مواد البناء الجافة القاسية وتداولها بالتكوين التكعيبي الذي ينتج عنه، والذي يحتوي على منحى اجتماعي وسياسي إلى جانب كونه مجسم هندسي تبسيطي ذو صبغة جمالية أيقونية لوناً وملمساً. 

في عمل آخر يمكن تعريفه كعمل إدراكي تفاعلي تنهار فيه رويداً رويداً منظومة تركيبية من أفاريز أفقية داخل إطار من الألومنيوم مؤطر بزجاج أسفلها رمل احمر يعتليها آخر من الكلس ثم آخر من الاسمنت فَيَليه واحد من الحصا وهكذا دواليك. ثلاث أو أربع مرات على أن ثقباً  على يمين أرضية العمل يحدِث خللًا فنيًا  فينهار التناغم الجمالي المؤطر ببطء ليضحي كومة ركام رمادي كئيب معظِّمًا حالة التدمير الذاتي منتهكا بالمجاز وبالفعل قدسية وأبدية التكوين بحسب ما علمنا إياه من سبقنا. فهل الاندثار يلتهم أطراف ثوب الفن الحريري؟ هل نحن على أعتاب فترة لا يصلح فيها للفن إلا انتحاره؟ أم أنها ساعة رمل شمسية تذكرنا بآنيتنا نحن البشر؟

حنا قبطي فنان شاب له باع طويل في الوسط الفني في القدس. أفكاره ومشاريعه لا تنضب. لا يكل، يتبنى ويشجع طلاب الفن والفنانين المبتدئين. تنم أعماله الفنية بتقنية الفيديو آرت على ذكاء ودقه باختيار الموضوع وكيفية التعامل معه. تداوله للفن فالسكيزي النكهة (رسام الإسباني فلاسكيز 1599-1660) مبسطة المظهر مبطنة المعاني والأبعاد.

يستدرجنا حنا بأحد أعماله إلى كرم زيتون فلسطيني نموذجي خال من أهله كحال كروم الزيتون عادة والتي نزورها نحن أصحابها مرات معدودة خلال العام للحرث والتنظيف ثم جمع الثمر، على العكس من الأراضي الزراعية على أنواعها والتي تستدعي تواجدًا يوميًا، على أن زراعة الزيتون في فلسطين كلها انتقلت منذ سبعينيات القرن الماضي من كونها زراعة واستغلال لأراضٍ نائية إلى فعل مقاومة ومواجهة وصمود، حيث أنها تحمي الأرض من خطر المصادرة بشتى الذرائع والحجج. في هذا العمل الذكي والدقيق والعميق لا يضع حنا اصبعه على كل ما ذكرت وحسب بل يذهب بنا الى أعمق وأنكى من هذا، حيث أن زيارته للحقل أو الكرم مفاجئة جداً ففي سلته الزرقاء هناك مقشة من الريش الملون  لتنظيف الغبار داخل المنزل يلتقطها ويتسلق سلمًا أتى به على كتفه كصليب حمله ابن الناصرة قبله يتسلق الشجرة اليانعة العتيقة ويبدأ بتنظيف أوراقها ورقة تلو الورقة من الغبار لتستطيع امتصاص الهواء النقي. هنا تبدأ تتراكم الأسئلة في ذهني. اكتشف أن حنا طمر لنا في عمله هذا العديد من الفخاخ والألغام قد يكون بعضها مبهمًا.  

تساءلت أولًا لماذا يذهب هذا الشاب لتنظيف أوراق الزيتونة إذ أننا لم نعهد مثل هذا الطقس من قبل. أهو طقس فني  لقدسية الشجرة أم تذكير لنا بأننا نأخذ من زيتونتنا أكثر بكثير مما نعطيها واننا أصبحنا نتغنى بحب الأرض فقط بالأشعار والروايات، لبسنا الجينز ونعمت أكفنا. وهنا أعود لأسأل: من أي غبار ينظف الفنان زيتونتنا؟ أهو غبار النسيان والتكاسل؟ أم غبار الأوتوسترادات التي مزقت أوصال التلال والهضاب حولنا؟

تعود بي أصاله حسن إلى جغرافيا وتضاريس لغة بصرية أجيد الإبحار فيها. فهي رسامة  تتخذ من الألوان الزيتية على القماش أداة تعبير كلاسيكية تنقلها بأحجامها الكبيرة وتركيباتها البنيوية المدججة بالتلغيز والمفارقات المبهرة تشد حبل التشنج بين اللوحة الخرساء والمشاهد وما يراه فلا يبقى الحال كما تعودنا عليه دائما: من يتأمل الآخر؟ هل المشاهد يتأمل القماشة أم العكس؟ يبقى السؤال مفتوحًا ومؤرقًا. لغتها التشكيلية غنيه بتقنيتها المتمكنه مقنعة ومفعمة بعمق ثقافي على شقيه المحلي والعالمي الحاضر والماضي كما وأنه ينطوي على  بعد سياسي اجتماعي عربي ونسوي.

 

في اللوحة المرفقة لأصالة يرصد المتأمل مجموعة من أنصاف أجساد البشر من الذكور والإناث تنحني وتحملق مشدوهة  نحو شيء أو حدث ما في أعماق البئر أو القبر. لا شك أن الحدث جلل يبدو ـنهم على حزن أناس لا نعرفهم ندرك من وضعيته أجسادهم ووجوههم التي  تلتحف الصمت والجدية وملابسهم الرسمية أنه موقف دراماتيكي  وها هو ذاك الشخص الواقف أسفل اللوحة يسراه تحمل كتاباً ويمناه مرفوعة الى الأعلى وكانه يلقى كلمه أو يؤدى صلاة أو يدير طقساً ما . لا أحد يستطيع أن يجزم لكنه واضح على الملأ أن أصال’ بدلت الدور المألوف بين اللوحة والمشاهد فأدخلته  الى الحيز الإدراكي ليجعل منا نحن القابعين خارج اللوحة أو بأسفلها المفعول به أي أننا ما عدنا المشاهدين أو المتأملين وإنما نحن هم المستهدفين اللوحة هي التي تحاول أن تقرأنا وليس العكس.

فمن نحن اذاً ؟ هل نحن الماء في البئر أم أننا الجثمان الميت بجوف القبر أو قد يكون هو طيفنا المنعكس بالماء وعندها نصبح نحن التشبيه للواقع المفقود وتصبح الحقيقة ما يرصده مسطح القماشة وهو المتخيل الواهي الهش، والتي تمنحها الرسامة ميزه امكانيه الحياه  وما نشهده امامنا هو مجرد حلم يبين هشاشه الوجود وان لم يكن واحد من هذه فكلها مجتمعه. يبقى أن أذكر أن الإضافة الذكية تكمن في قوس الألوان التي استعملتها الفنانة لتفعيل دراما الحدث فالأسود والأبيض نقيضين (لا وجود لهما بذاتهما) يؤطران ويقفلان على سماء ذو زرقه برتقالية وومضات صفراء تساندها مشحات فرشاتها تعبيريه برتابه واعية بحيث تتماشى مع مضمون الشكل ووضعيته فهي تعين منظومة الأدوات التي تحكم من خلالها أصاله قولها التعبيري هذا .

رونين زين مصور فوتوغرافي خريج أكاديمة بتسلئيل بالقدس مؤسس وصاحب دار الفنون (كولاج) بعسفيا الكرمل. لرونين ثقافة واسعة فنياً واجتماعياً، ويرى أن للفن أهميه عظيمة في تغيير حياة المجتمعات وتهذيب أطوارها وتغيير نهج حياته ا ثم تطورها، ولا شك بأن دوره كفنان فعال في المجتمع العربي المحلي مثله مثل رفاقه حنا قبطي وأصاله حسن وكثير آخرين لا يسعني ذكر أسمائهم جميعاً هو على أهميه كبيرة في الواقع الراهن، وهي تندمج بمجمل رؤيتهم الشمولية لمهمة الفنان وتعريف دوره والآلية التي يختارها لنيل أهدافه. رونين  يضفي على كونه فناناً متألقاً يجيد مهنه التصوير الفوتوغرافي عبأ كونه مصلح اجتماعي ومربي ويلقي على كتفيه تثقيف وتغير المجتمع من خلال مركز  الفنون الذي أنشئه  في عسفيا.

الصورة الأيقونية التي اخترتها من أعمال رونين بطلها هو الحمار ومسرحها الصحراء وبينهما الفنان ذاته يمسك برسن الحمار فما الذي نراه وما هو المغزي مما رصدته عدسة الكاميرا او الأصح أن نسأل من هو ذاك المصور إن كان رونين نفسه يتواجد داخل التصوير فما دور كل منهما وأيتها هويتاهما. الصورة ملتقطة بعدستين أو بمفهومين نقيضين واحده تصف لنا الصحراء كفضاء مفتوح شاسعة بمداها صفراء بفراغها نقيه بعذريتها، بينما الأخرى تسخرها كمنصة لمسرح متنقل أو استوديو بدائي مبتكر لحاجة تصوير ملحه ستوديو ميداني على شكل ستار أخضر خلفية لبطل سردية العمل  وهو الحمار خارج هذا الإطار الأخضر  يقف رونين ماسكاً رسن الحمار  متأملاً إياه متأبطا صبره، لا يمكن حصر مهمته بعنوان الا أنها تضيف العديد من الاحتمالات بينما يتفحص الحمار يشم جرد حيزه، فهل يمكن أن يكون هناك شيئا لا نراه نحن؟ أو أنه يقبل أرضاً ولد فيها وهناك من يهدد وجوده عليها فليس بعيداً عن المكان المرصود كائن غريب ينهش أحشاء بيئته.

 وهنا يتجلى دور الفن بين المرصود المعروض وبين المصدر المحرك الخفي هذا العمل من مشروع (خان الأحمر) والذي امتد من عام من 2017-2018 رصد خلالها رونين بعدسة كاميرته طبيعة الله الصحراء  وسكانها المكان الاصلين الطيبين، فيما رصدت عدساته بنفس الوقت مستوطنات صهيونية قريبة، تنهش الأرض تستبيحها جهراً تسحق عذريتها بمكعبات باطون بشعه تبطش بالجماد والنبات والحيوان تزحف مسرعة نحو الخان لتنتهك حرمته، إذوعلى عجلة من أمره يصبح الفنان مراسلاً منقذاً مخلداً لمعالم ومؤثرات قد لا تصمد أمام وحشية التوسع والاستيلاء طويلاً.

رونين كفناني عصر ما قبل النهضة يدخل طيفه إلى مسرح الحدث يوظف شخصه على شكلين المصور خارج الصورة وتشبيه معاصر لشاب شرق أوسطي داخل اللوحة وعلى الوجهين هو دور التضحية والتفاني وهذا ما أحبه انا في الفن.

bottom of page