top of page

عُرفت الحركة التشكيلية الفِلَسطينيّة منذ ثمانينيّات القرن العشرين، في فترة الانتفاضة وما بعدها، والتي كانت وسيلة لتأسيس خطاب تشكيليّ، وأسلوب لتفعيل حركه تشكيلية قادرة على تأصيل ذهنيّ، عمليّ، وتقنيّ، يستحضر – من خلاله – أساليب عديدة، أساليب تؤشّر نحو حضور الإنسان في زمانه موثّقًا ماضيه وتراثه، متضامنًا مع أرضه وهُويته. وفي بداية التسعينيّات بدأت تظهر جماعة من الفنّانين الذين تبنّوا الأسلوب الساخر، الكوميدي الأسود، و"الأيروني"، المضحك والمبكي في الوقت نفسه، الكوميديا الصادمة(40)، أو التراجيكوميدي التشكيلية. ويهدف هذا الأسلوب إلى تعرية المجتمع، وإلى رصد مستوى الوعي لدى الجمهور الحاضر – هل هو واعٍ وعيًا صحيحًا أم وعيًا مغلوطًا زائفًا أم وعيًا ممكنًا يستشرف المستقبل، ساعيًا – عبر تقنيّاته وآليّاته الفنّيّة والجمالية – لنقد الواقع المرصود والمعروض، عن طريق السخرية، والهزل، والهجاء، والمفارقة، والضحك، والبكاء – أمثال: ناجي العلي، عاصم أبو شقرة، شريف واكد، أشرف فواخري، وغيرهم.

 

فنّانون قد تميّزوا بالمفارقة الصارخة بين السلوك والقيم، متسلّحة أعمالهم بالضحك، والجنون، والهذيان، والمحاكاة الساخرة، لتدمير كلّ الثوابت التي تستند إليها الأنظمة السياسية المعاصرة على كلّ الصُّعُد والمستويات، متبنّين الكوميديا السوداء في أعمالهم كفلسفة تأمّليّة مأساوية، تندّد بعبثيّة الواقع وعدميّة المجتمع، وتشدّد على انحطاط القيم الإنسانية الأصيلة، محاربين العبث، والإخفاق، والفشل. هذه الكوميديا اللّاذعة، الساخره، التي – من خلالها – بات الفنّان الفِلَسطينيّ والعربيّ يتغنّى بالشذوذ، والمبالغة في التعابير إلى درجة السُّرياليّة والإبهام والميل إلى التعيير الكاريكاتوريّ، وانتقاء الهابط والسوقيّ والفجّ من الألفاظ والتعابير والصيغ التداوليّة، والتركيز على ما هو غريب وشاذّ في سلوكيّات المجتمع ولغته، والخلط الهستيريّ العجيب بين الأساليب والفنون والأزمنة والأمكنة، والتغنّي بفلسفة العبث والعدم.(41) كما أنّ هناك أساليب أدائيّة تعتمد على إدخال الجسد وشخصية الفنّان والفنّانة في حيّز العمل وفي إطاره في تقديم الكوميديا السوداء؛ فيتّسم بالمبالغة الشديدة في الحركة ومسرحيّة الأداء المفتعلة، مع التأكيد على المفارقات المحسوسة الصارخة، التي تظهر في أبسط صورها في ارتداء النساء لملابس الرجال، وقيام الرجال بأدوار النساء، أو أخذ عناصر ورموز رجوليّة لجعلها جزءًا من العمل، ليحدث عدم توازن في أداء العمل وتنفيذه، حيث يصعب التمييز بين الجنسين.

 

الكوميديا السوداء موجودة في جميع الاتجاهات الأدبية، في الفنّ التشكيليّ، في الكاريكاتير، في المسرح، وفي السينما، حاملة بين طيّاتها رؤية إبداعية عبثية متشائمة، قوامها الضحك الجنونيّ، والهستيريا اللّا-واعية، والنقمة العارمة على معايير السلطة والمجتمع والقيم وطابوهات السياسيّين والمجتمع الأبويّ.(42) وتعتمد هذه اللّغات الفنّيّة على انتقاد الواقع بكلّ مستوياته – السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعريته فكاهيًّا وكاريكاتوريًّا، وتشويهه تشكيليًّا وجماليًّا، وكشف نواقصه الظاهرة، وتشخيص عيوبه المضمرة، باستعمال السخرية والهزل لرصد الواقع القائم، واستشراف لحظات المستقبل الممكنة، بأسلوب كوميديّ أسود، ملحميّ برختيّ؛ واستخدام المسرح التسجيليّ والتوثيقيّ والتجريبيّ والسياسيّ، وتوظيف النقد الجدليّ، والتسلّح بالأسلوب الساخر المفارق، والارتباط بالواقع فهمًا وتفسيرًا. فالكوميديا السوداء والفنّ الأيرونيّ هما دراما واقعية جدلية نقدية، تجمع بين الجِدّ والهزل من أجل تغيير الواقع، وتحرير الإنسان على مستوى الوعي والذهن والشعور.(43). لقد أشار الشاعر الفرنسي أندريه بروتون(44) إلى أنّ مقولة "السخرية السوداء" التي عجزت عن فرض نفسها كمصطلح جديد في أربعينيّات القرن العشرين، حسْبها أنّها دخلت القواميس من غير تباطؤ، وبات لها موقع فيها. لكنّ هذه المقولة سرعان ما شقّت طريقها منذ الخمسينيّات في الأدب والفنون كافّة، مثل المسرح والسينما والفنّ التشكيليّ... ولم تنثن هذه المقولة، لاحقًا، عن غزو الحياة الثقافية بكلّ أبعادها: الإبداعية، والفكرية، واليومية. إنّها غزت، أيضًا، حركات الاحتجاج والتمرُّد في العالم، وقد أخذت بها الأجيال الجديدة، وجعلت منها سلاحًا لهتك الأفكار "الرجعية" ومواجهة الثقافة الرسمية. وكان لافتًا جدًّا رفع بعض المحتجّين في الشارع العربيّ – خلال الربيع الثوريّ – شعار "السخرية السوداء" وإنْ كانت فيه أبعاد سياسية.(45)


أشرف فواخري من مواليد البلاد – قرية المزرعة في الجليل الأعلى (1974). ينتمي فواخري إلى هذا الفريق من الفنّانين، ويتكرّر أسلوبه الساخر من عمل إلى آخر، حيث تبهرك الفكرة في أعماله وتدهشك تلك الرموز المحسوسة والمشار إليها، كمادّة مستعملة أو كرقم. للفنّان مقاصد من وراء أسلوبه الأسود والأيرونيّ يهتمّ بالصراع اليوميّ الدائر، فتحلّق الرموز في أعماله بحرفيّة ذهنيّة تضعك أمام نصّ أدبيّ أو بيت شعريّ غارق في المكان، أو تعيد بصريًّا النظر في كلّ ما تتركه الأحداث المعيشة والقضية الفِلَسطينيّة ذاتها من رمزيّة. تراه باحثًا عن الدور الهامّ للفنّ وعن الحتميّ في نصّ نثريّة تشكيليّة فاعلة ومؤثّرة، مصحوبة باختلافات في بثّ مقولته الفنّيّة وفي توجّهات ثقافية متعدّدة تجعل المتلقّي يعزوها إلى الفِلَسطينيّ مرّة، وإلى اليهوديّ مرّة؛ إلى الأدب الساخر مرّة، وإلى فنّ الاحتجاج مرّة؛ ليعطيها دورًا متجدّدًا مختزلًا ومعبّرًا عن وجدانيّته التي تسكن شخصه المتعدّد الهُويّات والثقافات، الذي ينادي ابن البشر إلى الحديث والحوار، محاكيًا العالم من خلال الرموز والمؤثّرات التشكيليّة التي يُحسن التعامل معها فكريًّا ونفسيًّا، لتأتي بوعي جماعيّ يخرج من الوعي الشخصيّ للفنّان، بانسجام وتوازن وتواضع، آخذًا رأي الآخر وإحساسه بالحسبان، رغم التمزّق والتشرذم الواقعين بين الثقافات، موجّهًا إلينا مشاعر مختلفة ومتناقضة بين الرؤية نحو غد أفضل وعدم الأمل، بين نصوص المشهد الثقافيّ الفِلَسطينيّ ورموز من مشاهد الثقافة الإسرائيلية اليهودية، بين المضحك والمبكي، الاحتجاج وحاجة البشر الماسّة للتواصل وللعيش بسلام.(46)

السخرية السوداء كأداة للتعبير

فريد أبو شقره

من مواليد أم الفحم 1963

فنان متعدد المجالات، فنان نصوص، رسام، نحات، أديب، باحث ومنظم فني، محاضر للفنون في كلية أورانيم الأكاديمية ، يسكن في أم الفحم ويعمل في مرسمه في المدينة، أقيمت له معارض جماعيه وفرديه في البلاد وخارجها، متحف تل أبيب، متحف القدس، متحف الفن الاسلامي، متحف عين حرود، صالة العرض للفنون ام الفحم، صالة العرض للفنون الناصرة، امريكا، ألمانيا، فرنسا، سكوت لاند وغيرها، ألف عشرة كتب في مجال الشعر والكثير من كتب الدراسات التي تناولت مواضيع الهوية والثقافة والانسان، ومواضيع الفن والفنانين. ترجمت كتبه للغات عديده.

من مقيم ومؤسس صالة العرض للفنون في أم الفحم مع أخيه الفنان سعيد أبو شقره.

(40) راجع: فريد أبو شقرة، شخص غير مرغوب فيه، عن الفنّان أشرف فواخري، صالة العرض للفنون، دارة الثقافة والفنون، الناصره، 2015.

(41) أحمد بلخيري، معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة النجاح الجديدة، ط 2، الدار البيضاء، 2006، ص. 140.

(42) للمزيد راجع: هشام شرابي، النقد الحضاريّ للمجتمع العربيّ في نهاية القرن العشرين، مركَز دراسات الوَحدة العربية، ط 1، بيروت، 1990.

(43) للمزيد راجع: د. جميل حمداوي، نطرية الكوميديا السوداء في المسرح المغربيّ، 2012 www.doroob.com

(44) أندريه بروتون: شاعر فرنسيّ، من روّاد الحركة السوريالية – "السخرية السوداء" التي ابتدعها عام 1939 عشية تأليفه أنطولوجيا فريدة في تاريخ الأدب هي "أنطولوجيا السخرية السوداء". يعلن أندريه بروتون انقلابه على مبدأ السخرية في بعدها التاريخيّ الرائج، حيث تملك "تراثًا" خاصًّا في آداب الشعوب كافّة.

(45) للمزيد راجع: د. جميل حمداوي، المصدر نفسه www.doroob.com

(46) للمزيد راجع: فريد أبو شقرة، يوميّات حمار، متحف الفنّ الإسلاميّ، القدس، 2014.

bottom of page