يبحث كل من تعنيه أحجية الكون والوجود منذ بدأ الخليقة بشتى الطرق والأساليب عن أجوبة أو حلول لتساؤلات لا نهائية حول مغزى ومفهوم حياتنا على هذه الأرض. هناك أربعة مذاهب وسيطية اختلفت جذريًا بجوهر تداولها لهذه المعضلة. يكفي أن نذكر بعضها باختصار شديد دون الخوض بتفاصيل تركيباتها ودهاليز فكر وفلسفة كل منها.
الدين، حيث أوحِى للمؤمن أن هناك خالق وهو السبب، والمسبب، لكل شيء وما على العبد إلا الطاعة والتوكل.يليه العلم الذي، وعلى عكس الدين تمامًا، يؤمن بالدراسة والاكتشاف والتحقق عن الطريق البحث والتجارب العلمية الممنهجة والتثبيت بالمعادلة والنتيجة الحتمية. لا مكان للغيبيات والشعوذة الحسية لدى العلم، فهو يرى بالوجود ظواهر يمكن فهمها واكتشاف أسرار تكوينها والأسباب وراء وجودها. ثم تأتي الفلسفة لتطرح وجوب الشك كبداية كل محاولة لفك ألغاز مفهوم الحياة، بدءًا بهرقليطس الذي قال أن"لا يخطو رجل في نفس النهر مرتين أبدًا" إلى ديكارت الذي أكد أن "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، توجب الفلسفة السؤال كشرط لإبطال أي إمكانية لوجود جواب بعينه. أما الفن، بشتى أشكاله وصيغه يرصد ويعاين ويتأمل ويحاكي هذا الكون وصفا أو مجازًا ويحاول، بإمكانياته المفتوحة والمتعددة، أن يتقصى حول ما تكشفه له أسرار الكون ومكوناته.
يبحث الفنان بشكل عام، والفنان التشكيلي-البصري بشكل خاص، منذ أولى خطواته المهنية عن مفاتيح للكثير من الأبواب الموصودة أمامه. كثيرة هي هذه الأشياء وأعصى ما فيها أنها، وإن وجدت، ليس من المضمون بقائها، فهي كالطيور المهاجرة تترك غالبيتها مكانها بعد راحة قصيرة وقلة منها تستقر وتستوطن فينا. يبحث الفنان عن سراب عوالمه ليكون لحياته معنى. فما أن يخرج من معركة مع الشكل واللون والتكوين حتى يجد نفسه منغمسًا بنزال عاتٍ جديد، وهكذا دواليك.
هي الفطرة، أو العادة، تنهل طاقتها من الاحتراق داخل الوجدان. لهيب لا يمكن مقاومته أو تجاهله أو تعديه أو مقايضته بحدس يتلمس ثنايا المجهول أو هاجس جياش إلى الصور المتمنعة القابعة في زنازين الوجدان.
كائن حائر دوما هو الفنان.
متعطش لماء البحر.
مترقب.
يحمل على أكتافه هموما ليست بالضرورة له او حكرًا عليه وحده.
فهو يحلم إنه إيكاروس يسرق جذوة النار من سراديب معابد الآلهة ليمنحها للبشر الفانيين.
وأنه فرساوس منقذ اندروميدا من براثن سيتوس.
الفنان ينتظر جودو (على سبيل المجاز)، لكن جودو لا يأتي. ليس دفعة واحدة بالتأكيد.
يحتاجه عمر بأكمله ليصل وقد لا يكتمل الجلاء، أو على الغالب حتمًا لا يكتمل.
يوم يليه ليل ينغمس الفنان بانتشال شظايا أفكار وأشكال وألوان ومواقف وأحاجي من ظلمات اللا-وعي فيعيد لها تكوينًا وتقويمًا ورتابة لها إيقاعها وجماليتها وسرديتها، تعكس واقعه ووضعيته الروحية الحسية الفكرية والمادية على السواء. هو عناء مستحب متتالٍ لا يتكون الفنان إلا من خلاله وبه عناء مهما تعاظم وترامى فإنه موجب وحتمي.
تبدأ أحلام مستغنامي روايتها، ״ذاكرة الجسد״، بالفقرة التالية التي تلمس بشفافية ورهافة تلك الحالة التي تعتري الفنان قبل وخلال وبعد فعل الفن:"قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها. عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم، دون أن نتألم مرة أخرى."
فهل الفنان هو من تعدى آلامه وأوجاعه الذاتية وتناسى مسألة موته وفنائه ليكون وسيطًا بين البشر العاديين وعوالم الغيب المستترة خلف ضباب الحضارات المتراكمة؟
هل هو مخلص كما اعتقد الفنان الألماني يوزيف بويس؟
وهل في معابدنا الجديدة متاحف وصالات عرض عامة تخلد أفكاره وأحلامه وتقيه من خطر الاندثار؟
هل الفنان شمعة تضيئ طريق آلامه وحده أم أنها تضيء الطريق لآخرين كثر؟
هل الفنان هو كائن مسه جنون عند اذ قد يكون وجهًا سريا من وجوه الله بحسب ما ورد عن ميشيل فوكو بكتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"؟ أم انه يرى ببلاهة أو سذاجة بريئة ما لا يراه العقلاء سوى أشلاء صور مبعثرة؟
هل هو رسول يحاول بناء جسور بين ضفتي النقيضين الـ "هنا" المادي المحسوس والملموس وبين "الهناك" اللامعلوم والمجهول، أم أنه كائن تمدد جسده بينما بقيت روحه عالقة بطفولة أبدية؟
تساؤلات وحيرة وردت بكل الحضارات الإنسانية حول هذه القضية: هل للفن والفنان دور وظيفي مجتمعي حضاري، أم أنه حالة رومانسية فردية تلهم الآخرين للتفكير، وللحلم، والإقدام والتقدم؟
هل يتعلم المتلقي ليصبح فنانًا أم أنه يأتي إلى عالمنا بروح سامية تكون رهن ظرف جغرافي تاريخي ينبتها لتكون أو يتخطاها لتضيع؟
تنقسم الآراء بهذا الصدد لكن الحقيقة الباقية هي أن هناك حياة نعيشها وهي موجودة بنا ورغما عنا لكن فعل الفن شعرًا، أو رسمًا، أو نحتًا، أو تصويرًا، أو سينمائيًا موجود فقط إن تفاعل معه الناس فتداولوه وقرأوه أو شاهدوه أو كتبوا عنه أو بحثوا فيه وحاولوا فهمه واستدراك مفاهيمه ومعانيه.
عند فيلاثكيث، رسام الرسامين، بلوحته الخالدة "Las Meninas" (لاس مينيناس) 1665 تتعاظم وتترامى أطراف الأحجية. فنحن نقف أمام أسئلة عديدة حول ما نراه ونعرفه وما نراه ولا نفهمه وما لا نراه ولا ندركه. هل وضعية هذا الفنان الذي يستكشف وجودنا بنظرة متفحصة بحجه المتفرج أم أنها زيارة مشاهد إلى حيز الخلق والإبداع بيدر الفنان فما نراه على اليمين الأميره وحاشيتها فهل هي لوحه للأميرة ولتخليد طفولتها؟ اذًا ها هو الفنان يوثق لنا حاشية القصر وشخوصه لكن ما عسا طيفه يفعل إلى جانبها يطل علينا متأملًا متفحصًا لحدث ما خارج اللوحة باتجاه المشاهد فهل يتفرسنا نحن المشاهدين؟ هل نحن مبتغاه في لوحته التي يرسمها أمامه ولا نرى منها إلا قسطًا من الخلف؟ ما الذي يرسمه الفنان إذًا؟ هل هما الملك والملكة بحسب ما تعكسه المرآه خلف طيف فيلاثكيث؟ هل هما موضوع اللوحة التي لا نراها؟ أم أنهما قدما لتوهما لاصطحاب الاميرة من أستديو الفنان إلى قصرها فانتفض فيلاثكيث ليتأكد من هوية المقتحم لخصوصيتها؟ أين نحن الآن وسط هذه العيوب البصرية والادراكية المتراكمة؟ هل يسهل الفهم إن افترضنا أن الانعكاس لطيفي الملك والملكة هما ما صاغه الرسام على قماشته؟ إمكانية واردة طبعًا. وماذا عن ذلك التشبيه لرجل ملتحٍ يفتح بابًا بعمق اللوحة إلى الفضاء الفارغ المفتوح؟ أيعقل أن يكون مخرجًا من هذا العالم المتخيل؟
وما هي تلك اللوحات المعلقة على الجدران لفنانين أحبهم فيلاثكيث ورسم لوحاتهم داخل لوحته بحيث يصبح الفنان ناسخًا ومقلدًا أو حتى سارقًا ماهرًا؟ فمن هو الفنان وما هي عوالمه؟ من أين يستقيها وكيف يكونها ويحيكها ولمن يعنوِنَها، خاصة في عصرنا هذا عندما ينعم الفنان بمساحة وافرة من الحرية الفردية والمؤسسات الحاضنة التي تؤمن جوائز ومنحًا مالية كثيرة ومقتنين يبحثوا عما يسعدهم من أعمال فنية وغيرها الكثير من المغريات والأفخاخ التي قد تشوش القدرة على التعبير الحقيقي الخارج عن المألوف والحد من دور الفنان كناقوس ينذر عن واقع عقيم جعل الفنان تاجر تحف أراجوز الموالد بدل أن يكون منارة وبوصلة تشير الى الاتجاه الصحيح.
مس الجنون فعل الفن وفاعله الفنان
أسد عزي
من مواليد شفاعمرو عام (1955م). درسَ في ثانوية "كريات آتا" ودرسَ الفنَّ في جامعةِ حيفا حيث حصل على درجة البكالوريوس في العام 1980، وفي جامعة تل أبيب حيث حصل على درجة الماجستير في العام 1983. حصل في العام 2018 على شهادة بروفيسور من كلية بيت بيرل. أحدُ مؤسّسي مجموعةِ "ريجا" (1982) وأوّل مَن أقام مهرجان "مركز التُّراث الفلسطينيّ" في الطيبة في العام 1986. عمل في العام 1987 محاضرًا في كلية الفنون الجميلة في بيت بيرل. محاضر ضيف في جامعة حيفا.
نشر عَزّي العديدَ من المقالاتِ والدِّراساتِ في الصُّحفِ العربيَّةِ المحليَّة. من أعماله: "تحت أقدام المصير المرّ"، قصائد، إصدار دار النشر الرنسانس، حيفا (1975)، "موسم الهمسات"، قصائد، إصدار دار النشر الرنسانس، حيفا (1978)، و- "قصائد سوقيّة"، قصائد، إصدار دار النشر "كلمات"، دالية الكرمل (1979)